کد مطلب:280413 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:243

الشک المریب
بعد أن تكاتفت مؤسسات الباطل من أجل الصد عن سبیل الله، بلغت الأحداث ذروتها برفع المسیح علیه السلام، لیكون رفعه آیة للذین یؤمنون بأن القوة جمیعا لله، ویكون فی الرفع عقوبة للذین ختم الله علی قلوبهم وعلی أسماعهم وعلی أبصارهم جزاءا بما قدموا. لتلقی بهم العقوبة فی طریق الضنك حتی ینتهی بهم المقر. تحت أعلام المسیح الدجال آخر الزمان، ورفع المسیح علیه السلام جاء ذكره فی مزامیر داوود وهو یخبر بالغیب عن ربه. قال لأنك قلت أنت یا رب ملجئی.

لا یلاقیك الشر ولا تدنو ضربة من خیمتك. لأنه یوصی ملائكته بك لیحفظوك فی كل طرقك. علی الأیدی یحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك. [1] وذكر تعالی فی القرآن الكریم أنه حفظ المسیح علیه السلام



[ صفحه 174]



علی امتداد دعوته. وذلك فی قوله تعالی: (إذ قال الله یا عیسی بن مریم اذكر نعمتی علیك وعلی والدتك إذ أیدتك بروح القدس) - إلی قوله تعالی - (وإذ كففت بنی إسرائیل عنك إذ جئتهم بالبینات فقال الذین كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبین). [2] .

وقال تعالی فی رفع المسیح علیه السلام (فبما نقضهم میثاقهم وكفرهم بآیات الله وقتلهم الأنبیاء بغیر حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله علیها بكفرهم فلا یؤمنون إلا قلیلا. وبكفرهم وقولهم علی مریم بهتانا عظیما. وقولهم إنا قتلنا المسیح عیسی بن مریم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذین اختلفوا فیه لفی شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه یقینا. بل رفعه الله إلیه وكان الله عزیزا حكیما). [3] .

ومن هذه الآیات نعلم (أولا): أن المسیح علیه السلام لم یتوف بأیدیهم لا صلبا ولا غیر مصلوب، بل شبه لهم، أی أخذوا غیر المسیح علیه السلام فقتلوه أو صلبوه (ثانیا) إن الذین اختلفوا فی عیسی أو فی قتله لفی شك منه. والشك نقیض الیقین (ثالثا) إن ما قالوه ترجع أصوله إلی الظن. أی إلی التخمین.

وقوله تعالی: (وما قتلوه یقینا) أی ما قتلوه قتل یقین. أو. ما قتلوه أخبرك خبر یقین بل رفعه الله إلیه أی إلی السماء وكان الله عزیزا حكیما ومعنی العزیز. أی الممتنع فلا یغلبه شئ. وقیل: هو القوی الغالب كل شئ. ومعنی حكیما: أی الذی یحكم الأشیاء ویتقنها. فهو تعالی حكیم فی جمیع ما یقدره ویقضیه من الأمور وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظیم.



[ صفحه 175]



ولما كان الله تعالی لا یظلم مثقال ذرة. فإنه أقام الحجة علی الذین شاهدوا شبیه المسیح علی الصلیب حتی لا یلتبس علیهم الأمر.

ویعتقدوا بأن الشبیه هو المسیح، فلقد أوجب تعالی علی تفسیر أن یبین لعباده ما یتقون. قال تعالی: (وما كان الله لیضل قوما بعد إذ هداهم حتی یبین لهم ما یتقون). [4] والمسیح علیه السلام وتلامیذه من بعده أقاموا الحجة علی المسیرة أثناء الدعوة وعند ذروة الأحداث وبعدها. ثم بعث النبی الخاتم (ص) وبین للناس الذی هم فیه مختلفون.

ومن بین فرق النصاری یوجد من یعتقد بأن المسیح علیه السلام لم یصلب وإنما صلب رجل آخر شبه به. یقول بتراند راسل كانت طائفة الدوسیین قد ذهبوا إلی أن المسیح لم یكن هو الذی صلب. بل بدیل أشبه به. وقد ظهر رأی مماثل لذلك فی الإسلام. [5] .

وعند البحث عن القاعدة التی ینتسب إلیها الشبیه الذی ألقی علیه شبه المسیح علیه السلام، لا نجد إلا قاعدتین لا ثالث لهما. إما أن یكون من الفریق الذی صد عن سبیل الله، وأما أن یكون من التلامیذ الذین أقروا بنصرتهم للمسیح وسلكوا السبیل الذی یسلكه إلی الله، فإذا افترضنا أن الشبیه ینتمی إلی الفریق الكافر بالدعوة. نجد أن هذا الافتراض یؤدی إلی هدم الدعوة من رأس، وذلك لأن الشبیه فی هذه الحالة سیعلن علی الذین أشرفوا علی محاكمته وعلی الجموع بعد ذلك.

أنه لیس المسیح حتی یحاكموه ثم یصلبوه، وقد یستغل شیوخ الیهود هذا الاقرار. فیدمرون دعوة المسیح ویغرسون أعمدة دعوتهم علی لسان الشبیه، ویترتب علی ذلك فتنة الذین آمنوا بالمسیح وانتصار الباطل علی الحق وهذا محال. لأن الرفع كان بقدرة العزیز الحكیم الذی له الحكمة



[ صفحه 176]



البالغة والحجة الرافعة. الحكیم فی جمیع ما یقدره ویقضیه من الأمور.

وبالجملة: لم یعلن الشبیه عن اسمه ولم یذكر فی أی موطن من المواطن أنه لیس المسیح. كما جاء فی الأناجیل. وعلی هذا فلا بد أن یكون الشبیه من القاعدة الثانیة. قاعدة التلامیذ. الذین قالوا نحن أنصار الله وقالوا (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدین) [6] ویؤكد ذلك الأحادیث التی وردت فی كتب التفسیر. ومنها ما روی أن المسیح علیه السلام قال لتلامیذه یا معشر الحواریین. أیكم یحب أن یكون رفیقی فی الجنة حتی یشبه للقوم فی صورتی فیقتلوه. فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا. فقال له المسیح: هو أنت ذاك. فألقی علیه شبه عیسی. ورفع عیسی من روزنة البیت إلی السماء، وفی روایة وألقی علیه شبه عیسی حتی كأنه هو. وفتحت روزنة من سقف البیت.

وأخذت عیسی علیه السلام سنة من النوم فرفع إلی السماء. [7] .

فإلقاء الشبه علی واحد من التلامیذ فیه حفظ للدعوة. لأن حركته علی امتداد المحنة هی حركة التلمیذ الذی امتحن الله قلبه بالإیمان. فلن یتكلم ولن یتحرك إلا وفقا لتعالیم المسیح. ووفقا لتوصیاته التی تخص هذه المحنة بالذات. لینجو الذین آمنوا ویسقط الذین كفروا فی الفتنة.

ویمكن أن یصل الباحث إلی أن الذی صلب لم یكن المسیح علیه السلام. إذا تدبر فی الأحداث ودقق النظر فی أقوال الشبیه. ونحن سنلقی الضوء علی حركة الرجل الذی صلب كما جاءت فی الأناجیل.

وإذا كانت الأناجیل قد قدمتها علی أساس أنها حركة المسیح. فإن علی الباحث أن یقرأها ویتدبرها علی أساس أنها صادرة من الشبیه. وفی



[ صفحه 177]



خاتمة المطاف سیقف الباحث علی حقیقة مفادها أن الحركة كانت للشبیه ولم تكن للمسیح. ومن العجیب أن الأحداث علی امتداد المحنة. حملت سؤالا واحدا. توجه به مجلس الشیوخ المؤلف من رؤساء الكهنة والكتبة وتوجه به الحاكم بیلاطس إلی الرجل الذی صلب. وكان هذا السؤال یحمل صیغة واحدة هی: هل أنت المسیح؟

ومن الأعجب أن رؤساء الكهنة والكتبة. كانوا یعرفون المسیح. فلقد شاهدوه فی الهیكل وهو یلقی بمواعظه. وتحدث إلیهم وتحدثوا إلیه فی أكثر من مكان. كما ذكرت الأناجیل. [8] كما أن جنود الدولة كانوا یعرفونه أیضا. وقد ذهبوا إلیه وسهم بعض الیهود یسألونه عن الجزیة.

هل یعطونها للدولة أم لا. وكانوا یریدون من وراء ذلك أن یوقعوه تحت عقوبة مناهضة السلطة الرومانیة، ولقد أجابهم المسیح یومئذ بقوله ما لقیصر لقیصر وما لله لله كما ذكرت الأناجیل. [9] .

وتبدأ الأحداث أن رؤساء الكهنة والفریسیون بعد أن عقدوا العزم علی القبض علی المسیح علیه السلام، بعثوا إلیه بمجموعة وأوكلوا إلیها هذا العمل. وذكرت الأناجیل أن یهوذا الخائن كان معهم، ویذكر إنجیل یوحنا أنهم عندما اقتربوا من المسیح تقدم نحوهم وقال:

من تریدون؟ أجابوه: یسوع الناصری. فقال لهم: أنا هو فلما قال أنا هو. تراجعوا وسقطوا علی الأرض [10] من هذا النص نعلم أن رؤساء الكهنة بعثوا بمجموعة للقبض علی المسیح لم یكن فیها أحدا یعرف



[ صفحه 178]



المسیح وهو الذی ذاع صیته فی الآفاق، وشاهده الخاص والعام وهو یحاضر فی الهیكل أو وهو یقدم معجزاته، ولم یكن بین المجموعة من یعرف المسیح سوی تلمیذه الخائن یهوذا، ولكن النص لم یكشف السبب الذی أدی إلی تراجعهم وسقوطهم علی الأرض، وإذا تدبرنا ما حدث لهم نجد إما أن یكون المسیح علیه السلام قد رفع فی هذه اللحظة فأصابتهم الدهشة وتراجعوا وسقطوا علی الأرض. وإما أن یكون شبیه المسیح هو الذی تقدم نحوهم وقال لهم: من تریدون؟ وبین قولهم: یسوع الناصری. وقوله: أنا هو. بدأت تتغیر ملامحه لتشبه ملامح المسیح، فتراجعوا وسقطوا علی الأرض من هول المفاجأة. فی الوقت الذی كان المسیح علیه السلام قد رفع فعلا. وبالجملة: إما أنهم شاهدوا عملیة الرفع وأعقبها مباشرة وجدوا أنفسهم أمام الشبیه. وعلی هذا ظل الشك رداءا لهم علی امتداد الأحداث، وإما أن شاهدوا التلمیذ أولا ثم شاهدوا تغییر ملامحه بعد ذلك، فلبسهم الشك علی امتداد الأحداث، وفی كل من الصورتین تقام الحجة علیهم وعلی من خلفهم لیهلك من هلك عن بینة ویحیی من حی عن بینة.

عقب القبض علی شبیه المسیح. كان الشك عنوانا رئیسیا فی كل محاكمة وقف أمامها الشبیه. جاء فی إنجیل متی وانعقد المجلس الیهودی الأعلی بحضور رؤساء الكهنة والشیوخ كلهم. وبحثوا عن شهادة زور علی المسیح لیحكموا علیه بالموت. ولكنهم لم یجدوا..

أخیرا تقدم اثنان وقالا: هذا قال: إنی أقدر أن أهدم هیكل الله وأبنیه فی ثلاثة أیام. فوقف رئیس الكهنة وسأله: أما تجیب بشئ علی ما یشهد به هذان علیك؟ ولكن یسوع ظل صامتا فعاد رئیس الكهنة یسأله قال:

أستحلفك بالله الحی أن تقول لنا: هل أنت المسیح؟! فأجابه یسوع:

أنت قلت. وأقول لكم أیضا إنكم منذ الآن سوف ترون ابن الإنسان



[ صفحه 179]



جالسا عن یمین القدرة. ثم آتیا علی سحب السماء،. [11] وقوله جالسا عن یمین القدرة فیه إشارة إلی رفع المسیح بقدرة الله إلی السماء. وقوله ثم آتیا علی سحب السماء فیه إشارة إلی نزول عیسی علیه السلام آخر الزمان. وروی أن النبی الخاتم (ص) قال وهو یبین قتال آخر الزمان بین جند الحق وبین جند الباطل... فیقول بعض المؤمنین لبعض: ما تنتظرون أن تلحقوا بإخوانكم فی مرضاة ربكم. من كان عنده فضل طعام فلیعد به علی أخیه. وصلوا حتی ینفجر الفجر وعجلوا الصلاة ثم أقبلوا علی عدوكم. ثم تأخذهم ظلمة لا یبصر أحدهم كفه. فینزل ابن مریم. فیحسر عن أبصارهم وبین أظهرهم رجل علیه لأمة. [12] فیقولون من أنت؟ فیقول: أنا عبد الله وكلمته عیسی... [13] وروی أن المسیح سینزل واضعا كفیه علی أجنحة ملكین. [14] .

ومن الدلیل أن الشبیه كان یتنبأ بنزول عیسی علیه السلام أنه عندما أخبرهم بمجئ المسیح علی سحب السماء. یذكر إنجیل متی. أنهم ضربوه ولطمه بعضهم قائلین تنبأ لنا أیها المسیح من ضربك. [15] .

وظل الشك رداءا للقوم علی امتداد اللیل. ویقول لوقا فی إنجیله ولما طلع النهار. اجتمع مجلس شیوخ الشعب المؤلف من رؤساء الكهنة والكتبة وقالوا: إن كنت أنت المسیح فقل لنا!! فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون. وإن سألتكم لا تجیبونی. ألا إن ابن الإنسان من الآن سیكون جالسا عن یمین قدرة الله.. [16] .



[ صفحه 180]



وفی هذا النص سألوه: إن كنت أنت المسیح فقل لنا. فكان رده إن قلت لكم لا تصدقون والشبیه علی امتداد محاكمته لم یقل أنه المسیح. فكانوا إذا سألوه هل أنت المسیح؟ قال لمن سأله أنت قلت لكنه هنا یقول لهم: إن قلت لكم لا تصدقون.

ثم انتقلوا به من الحی الیهودی إلی مقر الحاكم بیلاطس.

یقول إنجیل متی ووقف یسوع أمام الحاكم فسأله الحاكم: أأنت ملك الیهود؟ أجابه: أنت قلت. وكان رؤساء الكهنة والشیوخ یوجهون ضده الاتهامات وهو صامت لا یرد. فقال له بیلاطس: أما تسمع ما یشهدون به علیك. لكن یسوع لم یجب الحاكم ولو بكلمة حتی تعجب الحاكم كثیرا. [17] .

وعندما علم بیلاطس أن المسیح تابع وفقا لتقسیم الدولة لسلطة هیرودس. أحاله الیه. وكان هیرودس فی أورشالیم وقتئذ. وذكر إنجیل لوقا بأنه كان فی اشتیاق لرؤیة المسیح لیشاهد معجزاته. وقال من هو هذا الذی أسمع عنه مثل هذه الأمور. وكان یرغب فی أن یراه [18] وعندما وقف الشبیه فی حضرة هیرودس طلب منه أن یری آیة ما تجری علی یدیه. ولكن الشبیه لا یستطیع أن یقدم معجزة لأنه تلمیذا للمسیح علیه السلام. والمسیح وحده هو الذی یحیی الموتی بإذن الله ویشفی المرضی بإذن الله. یذكر إنجیل لوقا ولما رأی هیرودس یسوع فرح جدا لأنه كان یتمنی من زمان طویل أن یراه بسبب سماعه الكثیر عنه. ویرجو أن یری آیة ما تجری علی یدیه. فسأله فی قضایا كثیرة. أما هو فلم یجبه عن شئ. ووقف رؤساء الكهنة والكتبة یتهمونه بعنف. فاحتقره



[ صفحه 181]



هیرودس وجنوده وسخر منه. [19] .

وفی هذا النص كفایة علی أن الذی تحدث معه هیرودس لم یكن المسیح علیه السلام، وإنما كان شبیهه، فهیرودس كان یتمنی أن یری المسیح. ویرجو أن یری آیة، والله تعالی أید المسیح علیه السلام بأكثر من آیة، وكان علیه السلام تجری معجزاته فی المدن ویوبخ الذین شاهدوها ولم یتوبوا. یقول متی فی إنجیله ثم بدأ یسوع یوبخ المدن التی جرت فیها أكثر معجزاته لكون أهلها لم یتوبوا [20] وهیرودس سأل آیة. ومن تعالیم المسیح قوله كما جاء فی إنجیل مرقس لیس الأصحاء هم المحتاجین إلی طبیب بل المرضی. ما جئت لأدعو أبرارا بل خاطئین [21] وكان یقول كما جاء فی إنجیل متی ما رأیكم فی إنسان قد جاء لكی یخلص الهالكین. ما رأیكم فی إنسان كان عنده مئة خروف فضل واحد منها. أفلا یترك التسعة والتسعین فی الجبال. ویذهب یبحث عن الضال. الحق أقول لكم: إنه إذا وجده فإنه یفرح به أكثر من فرحه بالتسعة والتسعین التی لم تضل [22] فوفقا لهذه النصوص لا یوجد مانع یحول بین هیرودس وبین ما یرجو أن یراه علی أیدی المسیح علیه السلام. والدعوة الإلهیة فی عصر النبوة تفتح للآیات طرقا عدیدة لیؤمن الناس بما وراء المعجزة. ولكن ما حدث فی وجود هیرودس وجلیسه یدعو إلی العجب. فهیرودس الذی قال عن المسیح یوما من هو هذا الذی أسمع عنه هذه الأمور. وكان یرغب فی أن یراه. [23] .

وعندما رآه فرح جدا لأنه كان یرجو أن یری آیة ما تجری علی



[ صفحه 182]



یدیه، وقد علم أن المسیح لن یحول بینه وبین طلبه، لأنه جاء لیدعو الخطائین ویبحث عن الضالین ویقدم المعجزات ویوبخ الذین لم یؤمنوا مهما كان شأنهم، لأنه صادق ولا یبالی بأحد لأنه لا یراعی مقامات الناس. لأنه یعلم طریق الله بالحق، ولكن النصوص أوردت نتیجة اجتماع هیرودس بالمسیح بما لا تستقیم مع المقدمة، فهیرودس سأله فی قضایا كثیرة. أما هو فلم یجبه عن شئ، ووقف رؤساء الكهنة والكتبة یتهمونه بعنف. واحتقره هیرودس وجنوده وسخر منه، وهذا الموقف الذی دثره الصمت. لا یمكن أن یفهم إلا علی أرضیة شبیه المسیح، لأن الشبیه لا یملك أن یقدم آیة. فالآیات لله یؤید بها رسله وهم یقیمون الحجة علی الناس، والمسیح علیه السلام أقام حجته ورفعه الله إلی السماء، وبعد المسیح علیه السلام اختبر الله تعالی القافلة الإسرائیلیة الاختبار الذی یلیق بخاتمة المسیرة، بعد أن ابتلعت العدید من الفتن علی امتداد الطریق.

لقد جلس شبیه المسیح فی دائرة الصمت الذی لا یضر، دائرة الصمت فیها والكلام محسوبان بدقة بالغة، حتی لا تنهار الدعوة من رأس. ولكن تفوق حجة الذین آمنوا علی حجة الكافرین إلی یوم القیامة، وكان عزاء الشبیه وهو یتلقی من الناس الأذی والسخریة، أنه ینصر دین الله، ومن حوله صدی صوت المسیح علیه السلام عندما قال وهو یخاطب التلامیذ طوبی لكم متی أهانكم الناس واضطهدوكم وقالوا فیكم من أجلی كل سوء كاذبین. افرحوا وتهللوا فإن مكافأتكم فی السماوات عظیمة. فإنهم هكذا اضطهدوا الأنبیاء من قبلكم. [24] والشبیه كان تحت جمیع الضربات التی تم توجیهها إلیه. متعلقا بالثواب الذی سیناله فی الآخرة، فقد قال أمام الحاكم بیلاطس لیست مملكتی من



[ صفحه 183]



هذا العالم. [25] وهو بهذا یشیر إلی قول المسیح علیه السلام لتلامیذه متی جلس ابن الإنسان علی كرسی مجده تجلسون أنتم أیضا علی اثنی عشر كرسیا تدینون أسباط إسرائیل الاثنی عشر. [26] .

فالشبیه فی دائرة الصمت هو فی حقیقة الأمر فی دائرة المنتصر.

وهو فی هذه الدائرة یؤدی فریضة الصوم فی أسمی معانیها. وقد سئل المسیح علیه السلام یوما لماذا یصوم تلامیذ یوحنا وتلامیذ الفریسیین وأما تلامیذك فلا یصومون؟ فأجابهم: هل یقدر أهل العرس أن یصوموا والعریس بینهم. ما دام العریس بینهم لا یقدرون أن یصوموا. ولكن ستأتی أیام یكون العریس فیها قد رفع من بینهم. فیومذاك یصومون. [27] .

إن للصوم معانی وللصوم مراتب بعد رفع المسیح. والشبیه فی دائرة الصمت كان یؤدی فریضة. تحفظ للدعوة مكانها فی عالم تقذر بقذارة الكفر والطغیان، وفی مصادر الإسلام كان الشبیه یعلم أنه سیقتل لا محالة حین یشبه للقوم فی صورة عیسی علیه السلام. [28] وفی مصادر النصاری كان التلامیذ یعلمون أن فی اتباع المسیح مشقة لا یتحملها إلا مؤمن، ومن هذه المشاق عقوبة الصلب لكل من یلعنه المجتمع، ورغم قسوة هذه العقوبة. إلا أن المسیح علیه السلام قال إن أراد أحد أن یسیر ورائی فلینكر نفسه. ویحمل صلیبه كل یوم ویتبعنی. [29] وحمل الشبیه صلیبه. وفی نهایة المطاف نكس رأسه وأسلم الروح.

وأصابت الفتنة المهلكة الذین یسارعون فی الأرض الفساد. ففی



[ صفحه 184]



البدایة لم یتدبروا الأحداث وسخروا من المصلوب وسخر منه أیضا رؤساء الكهنة والكتبة والشیوخ قائلین: خلص غیره أما نفسه فلا یقدر أن یخلص. أهو ملك إسرائیل. فلینزل الآن عن الصلیب فنؤمن به، [30] وعلق بیلاطس لافتة علی الصلیب مكتوب علیها: یسوع الناصری ملك الیهود، فقرأ اللافتة كثیرون من الیهود.. فقال رؤساء كهنة الیهود لبیلاطس: لا تكتب ملك الیهود. بل إن هذا الإنسان قال أنا ملك الیهود.. [31] وفی النهایة انطلق الیهود نحو طریق طویل. یعملون فیه من أجل ملك الیهود الذی یأتی آخر الزمان وتطرح له الأرض فطیرا وملابس من الصوف وقمحا حبه بقدر كلاوی الثیران الكبیرة. كما ذكر التلمود، وعندما بعث النبی الخاتم صلی الله علیه وآله وسلم، تلی علی أسماع الجمیع حقیقة الأحداث. ومنه قوله تعالی: (وقولهم إنا قتلنا المسیح عیسی بن مریم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. وإن الذین اختلفوا فیه لفی شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه یقینا. بل رفعه الله إلیه وكان الله عزیزا حكیما. وإن من أهل الكتاب إلا لیؤمن به قبل موته. ویوم القیامة یكون علیهم شهیدا). [32] قال المفسرون فی قوله تعالی: (وإن من أهل الكتاب إلا لیؤمن به قبل موته) قیل: أی قبل موت عیسی علیه السلام إذا نزل لقتل المسیح الدجال. وقیل: كل كتابی لا یموت إلا وعند احتضاره یتجلی له ما كان جاهلا به فیؤمن به. لكن لا یكون ذلك إیمانا نافعا له. لقوله تعالی فی أول السورة: (ولیست التوبة للذین یعملون السیئات حتی إذا حضر أحدهم الموت قال إنی تبت الآن). [33] .



[ صفحه 185]



فقبل ساعة الموت لا بد من الأخذ بأسباب البحث عن الحقیقة، ولا بد أن تكون فاتحة هذا البحث مستندة علی مساند الفطرة. لأنه كما تكون البدایة تكون النهایة. والله تعالی ینظر إلی عباده كیف یعملون.


[1] مزامير 91 / 9 - 10.

[2] سورة المائدة آية 110.

[3] سورة النساء آية 155 - 158.

[4] سورة التوبة آية 115.

[5] حكمة الغرب / بتراندراسل ص 242.

[6] سورة آل عمران آية 52.

[7] أنظر: تفسير ابن جرير وتفسير البغوي وتفسير ابن كثير في قوله تعالي: (وما قتلوه وما صلبوه).

[8] أنظر: دخول المسيح إلي أورشاليم (متي 21 / 1 - 17)، وتوبيخه للفريسيين وعلماء الشريعة (لوقا 11 / 37 - 54) ومحاولة اليهود رجم المسيح (يوحنا 10 / 21 - 39)، طرد الباعة من الهيكل (متي 21 / 12 - 17، مرقس 11 / 15 - 18، لوقا 19 / 45).

[9] أنظر (متي 22 / 15 - 12، مرقس 12 / 13 - 17، لوقا 20 / 20 - 26).

[10] يوحنا 18 / 4 - 7.

[11] متي 26 / 60 - 64.

[12] لأمة / أي درع. ويقال سلاح.

[13] رواه الطبراني وابن عساكر (تواتر أحاديث نزول المسيح ص 253).

[14] رواه الطبراني وابن عساكر (التواتر ص 164) (تفسير ابن كثير 583 / 1).

[15] متي 26 / 68.

[16] لوقا 22 / 66 - 70.

[17] متي 27 / 11 - 14.

[18] لوقا 9 / 9.

[19] لوقا 23 / 8 - 12.

[20] متي 11 / 20.

[21] مرقس 2 / 17.

[22] متي 18 / 11 - 14.

[23] لوقا 9 / 9.

[24] متي 5 / 11 - 13.

[25] يوحنا 18 / 36.

[26] متي 19 / 27 - 30.

[27] مرقص 2 / 19.

[28] أنظر تفسير ابن كثير لدي قوله تعالي: (وما قتلوه...).

[29] لوقا 9 / 23.

[30] متي 27 / 43.

[31] يوحنا 19 / 19.

[32] سورة النساء آية 157.

[33] سورة النساء آية 18.